لم تكن مخططات تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء وليدة أحداث السابع من أكتوبر الماضي وما تلاها، بل هي، وكما ذكرنا في المقال السابق، قديمة قدم الصراع العربي الإسرائيلي ومواكبة لبداياته ومحطاته الرئيسية ولحظات انفجاره الفاصلة.
وما أحداث غزة إلا لحظة انفجار أخرى ارتأتها إسرائيل مواتية لتنفيذ هذا المخطط الذي طال انتظاره، والأدلة على ذلك كثيرة والمحطات الفاصلة تكررت مرارا في لحظات الصراع المفصلية، فلم يكن ما كشف عنه معهد "ميسجاف" الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية مؤخرا من تفاصيل دقيقة للخطة الإسرائيلية المرتقبة لتهجير كافة سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء في مصر هو أول الخطط أو أول ما يتم الكشف عنه.
بل إن الأمر يعود لبدايات الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا ما أثبتته وثائق وزارة الخارجية البريطانية المفرج عنها مؤخرا والتي كشفت عن أن الحكومة البريطانية، وبعد فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، درست خططا ومشاريع عدة شملت دمج جزء من سيناء، وقطاع غزة، وجزيرتي تيران وصنافير، وجزء من الأردن لإنشاء منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل، في إطار تسوية الصراع بين إسرائيل والعرب، وتأمين تدفق النفط من الشرق الأوسط إلى الغرب.
وكان من بين المشروعات المطروحة مشروعا باسم "خطة سيناء"، اقترحتها على الحكومة البريطانية إليزابيث مونوريو، رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة الإيكونومسيت في 13 ديسمبر عام 1956 وتمحورت حول فكرة رئيسية وهي استغلال سيطرة إسرائيل على سيناء لإقناع مصر بالتنازل عن جزء منها لإقامة منطقة دولية باسم "قطاع سيناء" كما ورد ذكره في المقال السابق.
المفارقة التاريخية الملفتة في هذه الخطة أنها تكاد تتكرر بنفس أسبابها وظروفها وسياقها وملابساتها الآن، فكأن الليلة تشبه البارحة وكأن الماضي يعيد نفسه، وكأن ثلثي قرن من الزمان لم تنقضي، فإقدام جمال عبد الناصر على تأميم قناة السويس عام 1956 كانت ذريعة لإسرائيل للدخول في الحرب تحقيقا لأهدافها الخفية أكثر منها سببا منطقيا أو ضروريا لخوضها، تماما كما استغلت إسرائيل مغامرة حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي لتحقيق أهداف أبعد كثيرا عن الانتقام لما حدث.
كما أن الأسباب التي ساقتها مونوريو والتي يمكن أن تجعل مصر توافق على خطتها هي نفس الأسباب والظروف التي يروج لها أصحاب المشروع الحالي بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وهي حاجة مصر إلى المال وأزمتها الاقتصادية التي ستدفعها كما يرى هؤلاء في الماضي والحاضر إلى قبول هذه الصفقة المشبوه والملوثة بدماء الفلسطينيين، حيث راهنت مونوريو وقتها على حاجة مصر إلى المال في مشروعات التنمية. وهو نفس المنطق الذي راهن عليه أصحاب المشروع الحالي لتمرير مشروعهم رغم مرور نحو نصف قرن من المشروع الأول.
حيث راهنت مونوريو وقتها على حاجة مصر إلى المال في مشروعات التنمية وقالت إن "رفض مصر للأموال سوف يضع حكومتها في مواجهة الشعب الذي يعتقد بأنه ينبغي إنفاق مواردهم على التنمية والرفاهية وليس على مغامرات تتجاوز الحدود"، لذا اقترحت أن تكون مصادر تمويل هذه الخطة مقدمة من الدائنين الأساسيين لمصر والذين سوف يستفيدون من "قطاع سيناء"، لحين تشغيل المنطقة وتمكنها من الاعتماد على نفسها ماليا. وتشارك في التمويل شركات النفط الأوروبية والآسيوية المستفيدة. وتوقعت الخطة أن تكفي الرسوم، التي تدفعها الشركات، لتمويل احتياجات الإدارة والتأمين.
وهو نفس المنطق الذي راهن عليه أصحاب المشروع الحالي لتمرير مشروعهم رغم مرور نحو نصف قرن من المشروع الأول، ففي دراسة خطيرة نشرت قبل أيام كشف معهد "ميسجاف" الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية عن أدق التفاصيل للخطة الإسرائيلية المرتقبة والمأمولة لتهجير كافة سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء في مصر، الدراسة أعدها المحلل الاستراتيجي أمير ويتمان، وجاءت تحت عنوان" خطة التوطين والتأهيل النهائي في مصر لجميع سكان غزة: الجوانب الاقتصادية".وشملت عدة نقاط رئيسية تعتمد عليها إسرائيل لتهجير سكان غزة إلى مصر، وأهم هذه النقاط هي استغلال أزمة مصر الاقتصادية بتهجير هؤلاء الفلسطينيين إلى سيناء مقابل "امتيازات مادية ضخمة".
ووفق الخطة فإن هناك فرصة فريدة ونادرة لإخلاء قطاع غزة بالكامل بالتنسيق مع الحكومة المصرية، حيث أن هناك حاجة إلى خطة فورية وواقعية ومستدامة لإعادة التوطين وإعادة التأهيل الإنساني لجميع السكان العرب في قطاع غزة في سيناء، والتي تتوافق بشكل جيد مع المصالح الاقتصادية والجيوسياسية لإسرائيل ومصر والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
وتعتمد الخطة الإسرائيلية على تقديم حوافز مالية فورية على هذا المستوى للاقتصاد المصري من شأنه أن يوفر فائدة هائلة وفورية للحكومة المصرية، وأن هذه المبالغ المالية، بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي ضئيلة للغاية حيث أن استثمار بضعة مليارات من الدولارات لحل هذه القضية الصعبة هو حل مبتكر ورخيص ومستدام
وأشارت الدراسة إلى أن "الدائنين لمصر، مثل ألمانيا وفرنسا وغيرهم، لا يريدون أن يشهدوا الفشل التام للاقتصاد المصري، بحيث يكون لديهم أيضًا حافز لإبقاء الاقتصاد المصري واقفا على قدميه حتى لو انتهى بالاستثمار الإسرائيلي في إعادة تأهيل جميع سكان غزة في الشقق الموجودة في مصر، فبالنسبة للدول الأوروبية، وبشكل رئيسي دول أوروبا الغربية، نقل جميع سكان غزة إلى مصر وإعادة تأهيلها مع الحد بشكل كبير من خطر الهجرة غير الشرعية إلى أراضيهم ميزة كبيرة.
المفارقة الأخرى أن الخطتين تتشابهان أو ربما تتطابقان في قراءة بعض المواقف وردود الفعل الإقليمية من كليهما، إذ توقعت خطة ميسجاف أن تستفيد المملكة العربية السعودية بشكل كبير من هذه الخطوة لأن إخلاء قطاع غزة يعني القضاء على حليف مهم لإيران ومساهمة كبيرة في الاستقرار بالمنطقة، وبالتالي السماح بتعزيز السلام مع إسرائيل دون التدخل المستمر للرأي العام المحلي بسبب جولات القتال المتكررة التي لا نهاية لها، والتي تشعل نار الكراهية ضد إسرائيل، على حد قول مركز الأبحاث الشهير
بالإضافة إلى أن السعودية، تحتاج إلى عمالة ماهرة في البناء مثل سكان غزة باعتبارها تعمل على بناء مشاريع ضخمة ومدينة نيوم المستقبلية، ويمكن أن يكون هذا تقاطعاً للمصالح على هذا المستوى أيضاً، كما أنه من المفترض أن عدداً لا بأس به من سكان غزة سيغتنمون فرصة العيش في دولة غنية ومتقدمة مثل السعودية بدلاً من الاستمرار في العيش في ظل الفقر تحت حكم حماس".
أما خطة "مونوريو" فتوقعت أن تكون المملكة أكثر الدول العربية استعدادا لقبول إنشاء "قطاع سيناء"، إذ "ستمكنها من إنشاء خط أنابيب سعودي خالص ينقل النفط السعودي إلى البحر المتوسط، ما يوفر الوقت والمال". وقالت مونوريو إن الخطة ستوفر "سوقا للغاز الطبيعي السعودي"، وتوقعت أن "يكون هذا أيضا مغريا" للمملكة. ولهذا الحديث بقية..